رسالتنا هي أن نتحرك ونوجه حركة التاريخ نحو الغاية الأصيلة التي يتحرك نحوها الوجود، وهي حركة انفتاح الكل على الكل و انفتاح عالم الشهادة على عالم الغيب، كما هي مسيرة العلم والفكر انفتاح للمعلوم على المجهول، ومسيرة استكشاف وتطور جوهري يقودنا نحو المثل الأعلى. رسالتنا ليست تجزيئية إنما هي بنيوية وهي حصيلة تواصل مبدئي بين العلوم كافة وضعية وإلهية، طبيعية وإنسانية، إنها رسالة جامعة تصلح أن تكون رسالة “الجامعة النموذجية”. إن الإنسان في مسيرته العلمية ينطلق وفقا لرؤية جامعة إنسانية وعلمية، تهدف الرؤية الإنسانية إلى تحقيق مبادئ الحضارة والمدنية، إنها بناء للإنسان، بناء نفسي وفكري من أجل إعداده للمهمة الثقيلة الملقاة على عاتقه، تلك المهمة التي أطلق عليها القرآن الكريم تعبير “الأمانة”. والعلوم الطبيعية ما هي إلا وسائل هذا الإنسان، المعد لحمل الأمانة، لتسهيل تحقيق الغاية وتوفير سبل تسهيل حمل الأمانة، والغايتان اللتان ترسمهما العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية غايتان ساميتان مترابطتان، إحداهما تخص ذات الإنسان وبناءه النفسي والأخلاقي، وتسعى إلى رفع إنسانية الإنسان إلى حدودها القصوى التي تزاحم الملائكة، وغاية العلوم الطبيعية لا تبتعد عن ذلك لأنها تختص بتطوير البيئة والحاضنة التي تحمل هذا الإنسان وتوفر له سبيل الرخاء والسعادة والعيش الكريم وكل ذلك يساهم في تسهيل المهمة على الإنسان. والغاية القصوى والنهائية هي بلوغ المثل الأعلى، على طريق الكدح والعمل والمثابرة والإبداع. إن الحركة نحو المثل الأعلى حركة نشاط وتطلع واستشراف لآفاق المستقبل، ومن دون هذه الحركة وهذا الاستشراف والعمل الكادح لا يمكن للإنسان أن يستمر بالوجود، وإن كان موجودا على مستوى الجسد إلا أنه غير موجود على مستوى الروح والحضارة. إن مجرد وجود حقيقة المثل الأعلى وضرورة الحركة نحوه مجرد افتراض ذلك، فهو يطرح العمل والكدح من أجل بلوغ المثل الأعلى “يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه”، ولذلك فالإنسان الكسول، الإنسان الخامل، وغير الكادح، لا نصيب له من هذا اللقاء المصيري، التاريخي، مع المثل الأعلى (مع الله سبحانه وتعالى). فالجامعة في حقيقتها، ليست جمعا عدديا لمجموعات من التخصصات المتفرقة التي لا يرتبط بعضها ببعض، فتعبير الجمع في اسم “الجامعة” ليس تعبيرا عدديا، وإن كان هذا الحاصل للأسف في أغلب الأحيان، بل هي تعبير معنوي، جمع معنوي وفلسفي للعلوم المختلفة في مجموعة مبادئ مشتركة ترسم فلسفة الجامعة، وتعمق مفهومها المعنوي، وتحدد غاياتها، بتعبير آخر، تكوِّن ستراتيجية الجامعة التي ترسم مستقبلها. فإذا بقيت تلك العلوم متفرقة في داخل الجامعة، مع غياب المبادئ الجامعة للعلوم المختلفة، سيكون لكل حقل علمي غاية جزئية تخصه بقطع النظر عن الغايات العلمية الأخرى، وسوف تتكثر الغايات التي قد تتصادم فيما بينها، ويعيق بعضها بعضا في غياب فلسفة شاملة للجامعة ورسالة ثقافية واضحة لها، وبالتالي نقع في نزعة وضعانية علموية تجاوزها الغرب نفسه في مطلع السبيعينيات من القرن العشرين، ولازالت جامعاتنا مبتلاة بها، بسبب نقلها مع العلوم الطبيعية التي نقلناها من الغرب، فضلا عن أننا لم نعرف فلسفة اكتشافها ومنابعها، لأننا كنا بعيدين عنها لظروف تاريخية معروفة. الرؤية التجزيئية إذن تفقد الجامعة رسالتها، وتشوش على ذهن القيادي فتفقده القدرة على إدراك الغاية السامية للجامعة، وإذا فقدنا القدرة على إدراك الغاية فقدنا القدرة على الحركة، لأن الحركة الإنسانية، أعني الحركة الحضارية التي يقودها الإنسان، تفترض غاية سامية تتحرك نحوها. وتتوقف هذه الغاية على وجود فلسفة أو رؤية واضحة وشاملة يهتدي الإنسان من خلالها إلى تلك الغاية، ولا يمكن لهذه الرؤية أن تتحدد معالمها من دون إدراك المبادئ المشتركة للعلوم التي تحتويها الجامعة. وقد تسهل فلسفة العلوم الاقتراب من هذه الرؤية، وربما نحن بحاجة إلى ميتافيزيقا الجامعة، أعني حقل البحث في أسس العلوم، الطبيعية والإنسانية، وتوحيدها من ناحيتي المبادئ الأولى، والغايات النهائية، وتحديد عوامل الاختلاف المنهجي والموضوعي بينها، فإن ذلك يساعد في إدراك أسس العلوم ومناهجها وبالتالي المساهمة في وضعها واكتشافها وتطويرها. فمنهج الكشف العلمي هو البعد النظري للعلم الذي يرسم معالم طريق الكشف عن الحقائق العلمية، وبالتالي فالعناية به يساعد على امتلاك ناصية الكشف عن الحقائق العلمية. فضلا عن مساعدته في إدراك حدود العلم، وغاياته والعناصر المشتركة بينه وبين العلوم الأخرى سواء كانت طبيعية أو إنسانية. إذن لا حركة من دون غاية، ولا غاية من دون فلسفة عمل مشتقة من فلسفة نظرية. لأن الغاية، أو بلغة الفلسفة، العلة الغائية، هي العلة الدافعة، أعني المحرِّكة، إنها علة جذب، وقد يسميها بعض العرفاء إنها عشق، أعني كون حركة الإنسان نحوها على سبيل العشق، وكلما كانت غاية الإنسان نسبية وجزئية فإن حركته تكون محدودة بحدود غايته، وبعدها ينتهي هذا الإنسان، يسكن إلى الدعة والكسل والخمول، وإذا كانت غاية الإنسان لا متناهية كما هو الحال بـ “المثل الأعلى”، أو بتعبير العرفاء الحركة على سبيل العشق لتلك الغاية السامية، فإنها ستكون حركة لا متناهية، تفرض على الإنسان الكدح الطويل في طريق تكاملي نحو الله، طريق يتكامل فيه الإنسان فيصل إلى أعلى درجات الكمال، لكي يلتقي بالحقيقة المطلقة (المثل الأعلى). أما المتكاسلون المهملون فلاحض لهم من هذا اللقاء، ويبدو أن هذا قانون تاريخي لا يتخلف. ذلك يبرهن لنا مدى ما للأفكار والفلسفات من قدرة على البناء، مثلما لها القدرة على الهدم والتدمير، إنها لا تقل عن قدرات الصواريخ على التدمير، بل تتجاوزها إلى حدود بعيدة، فالصواريخ والطائرات قد تدمر البنية المادية البيئية، لكن الفلسفات والأفكار، إذا كانت سلبية، تدمر ذات الإنسان، وتصيب منظومة التفكير لديه بعطب، وبالتالي فالبيئة الخارجية سواء توفرت فيها البناءات المادية أو لم تتوفر فالأمر سيان، ما معنى البيئة والمحيط المبني بناء ماديا من دون إنسان، في غياب الإنسان يغيب المعنى من الحياة، والحياة بلا معنى تعني العدم تماما. وغياب الإنسان هنا أعني به الإنسان الغائب روحيا ونفسيا وفكريا، وليس الغياب الجسدي، فقد يكون للإنسان حضورا جسديا كغيره من الاحجار والأشجار، والذئاب والقطط، وربما أقل شأنا منها وأكثر شرا، كما في قوله تعالى: “أولئك كالأنعام بل هم أظل…”. ولذلك قدم القرآن شرط بناء الإنسان في صورة قانون شرطي “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. أي أنه اشترط الرفاهية والبناء، والعيش الرغيد ووفرة الخيرات، ببناء الذات الإنسانية. وهذه الآية ليست مجرد نص للقراءة يقرأه الكسول من أجل طلب الغفران أو للاستشفاء به أو للاسترزاق، بل هي قانون عمل، وسنة تاريخية لا تتخلف، والمتخلف عنها ستعاقبه قوانين التاريخ بإخراجه عن مسرح التاريخ. بعد كل ذلك الذي قدمناه نصل إلى الغاية من تلك المقدمة الفلسفية العملية. نعني أن دورنا في كلية الآداب لا يخرج عن سياق تلك الرؤية الفلسفية الجامعة، إننا سنكون حلقة تتواصل مع مبادئ فلسفة بناء الإنسان. وكلية الآداب بعلومها الإنسانية والأدبية تدرك غايتها السامية وهي بناء الإنسان، أعني أنها تأخذ على عاتقها مسؤولية إنجاز الشرط في القانون التاريخي الذي رسمه القرآن الكريم وحدده بدقة في نصه القائل”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. وبناء الإنسان مهمة شاقة، وهي من أصعب وأخطر المهام التي تقع على عاتق المتصدي للتغيير والمسئولية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، والمتصدي والمسئول لا أعني به المسئول الأول في الكلية (العميد أو رئيس القسم) فحسب، بل كل أستاذ اختار هذه المهمة، وكل طالب علم اختار هذه الدراسة، وكل متخرج من هذه الكلية، وكل موظف وإداري اختار العمل في كلية الآداب، كلهم مسئولون بنسب تتلائم مع درجته ووظيفته ووعيه، “قفوهم إنهم مسئولون”.